لا للأب الحاضر الغائب

مقدمة

في صميم كل أسرة متماسكة، يقف الأب كركيزة أساسية، ليس فقط بوصفه معيلًا أو صاحب السلطة، بل كعنصر محوري في التربية والدعم النفسي والعاطفي والاجتماعي لأبنائه. غير أن مشهدًا يتكرر في كثير من البيوت العربية والعالمية هو ذلك الأب “الحاضر الغائب”؛ ذاك الذي يوجد جسديًا في المنزل، لكنه غائب فعليًا عن حياة أطفاله ومجريات أسرته. فوجوده لا يتعدى الحضور الفيزيائي، في حين يغيب عن الحوار، الاهتمام، المشاركة، التفاعل، والتوجيه. وهذه الظاهرة، وإن كانت صامتة في كثير من الأحيان، فإن آثارها العميقة والمدمرة تمتد إلى أجيال قادمة وتُخلّف ندوبًا نفسية وتربوية لا تُمحى بسهولة.

مفهوم “الأب الحاضر الغائب”

لا يتعلق مفهوم “الأب الحاضر الغائب” بغياب الأب من المنزل بداعي العمل أو السفر أو الوفاة، بل يشير إلى الأب الذي يكون موجودًا في البيت، يعيش تحت سقف واحد مع أسرته، لكن حضوره لا يحمل أثرًا حقيقيًا في حياة أطفاله. إنه الأب الذي لا يشارك أبناءه تفاصيلهم اليومية، لا يستمع إليهم، لا يُعبّر عن مشاعره تجاههم، ولا يُبدي اهتمامًا جادًا بتربيتهم أو احتياجاتهم النفسية والاجتماعية. فهو غائب بعاطفته، بفكره، بتواصله، وبأدواره التربوية، تاركًا فراغًا هائلًا تُحاول الأم وحدها غالبًا سده.

جذور الظاهرة

يمكن تتبع جذور ظاهرة “الأب الحاضر الغائب” إلى مجموعة من الأسباب المركّبة، بعضها اجتماعي وثقافي، وبعضها نفسي وشخصي، منها:

1. الثقافة الأبوية التقليدية

في المجتمعات التقليدية، غالبًا ما يُنظَر إلى الأب على أنه مجرد “مزود” مادي للأسرة، مسؤول عن الإنفاق والعمل، بينما تُترك مهمة التربية والرعاية العاطفية للأم. هذه النظرة تُقلّص دور الأب وتُبعده عن الجانب التربوي والنفسي الضروري في حياة الأبناء.

2. ضغوط العمل والانشغال المفرط

في العصر الحديث، يتعرّض الكثير من الآباء لضغوط عمل مكثفة تمتد لساعات طويلة، بالإضافة إلى أعباء مالية متزايدة تجعلهم يُعطون الأولوية لتأمين متطلبات الحياة المادية على حساب تفاعلهم الأسري. وقد يستغل الأب هذه الضغوط كذريعة لتبرير انسحابه من تفاعلات الأسرة.

3. الافتقار إلى النضج العاطفي أو التربوي

كثير من الآباء لم يتلقوا نماذج صحية في تربيتهم الأولى، فنشأوا على الحرمان العاطفي أو التسلّط أو الإهمال، مما جعلهم غير قادرين على تكوين تصور متوازن لدورهم كآباء. وبالتالي يُعيدون إنتاج النموذج نفسه مع أبنائهم، دون وعي بحجم الضرر الناتج.

4. الاعتماد الكلي على الأم

يتواكل بعض الآباء على الأمهات، ويفترضون أن كل ما يتعلق بالأبناء هو من “اختصاص الأم”، فيتراجعون تدريجيًا عن أداء أدوارهم، إلى أن يصبح وجودهم في حياة الأبناء مجرد حضور هامشي لا يتعدى توجيهات سطحية أو ردود فعل انفعالية عند وقوع مشكلة.

تجليات الحضور الغائب

يتجلى “الحضور الغائب” للأب في أنماط سلوكية متعددة، منها:

• الانشغال الدائم بالجوال أو التلفاز، حتى أثناء وجوده مع الأسرة.

• عدم تخصيص وقت للحديث مع الأبناء أو مشاركتهم أنشطتهم اليومية.

• إهمال حضور المناسبات المدرسية أو العائلية التي تعني الكثير للطفل.

• الانفعالية أو الصمت المطبق بدلًا من الحوار والتوجيه.

• عدم معرفة تفاصيل حياة الأبناء من اهتمامات، أصدقاء، مشكلات، أحلام.

• تفويض الأم بشكل كامل في كل ما يخص التربية والتعليم دون أي متابعة حقيقية.

آثار الظاهرة على الأطفال

غياب الأب عن الحياة النفسية والعاطفية لأطفاله يُخلّف آثارًا بالغة الخطورة، تؤثر في تشكيل شخصياتهم، استقرارهم النفسي، وقدراتهم على التكيف والنمو السوي. ومن أبرز هذه الآثار:

1. ضعف الثقة بالنفس

غياب الدعم الأبوي يجعل الطفل يشعر أنه غير مرئي أو غير مهم، مما يزعزع ثقته بنفسه وبقيمته الذاتية. فالطفل الذي لا يسمع كلمات التشجيع أو الحب أو التقدير من والده، يكبر وهو يشك في نفسه وفي قدراته.

2. الاضطرابات السلوكية

قد يلجأ الأطفال إلى لفت الانتباه بطرق غير سليمة، مثل العدوانية، العناد، أو حتى الانعزال. فالطفل الذي لا يجد انتباهًا إيجابيًا، قد يسعى لجذب الانتباه السلبي كوسيلة للتعبير عن فراغه العاطفي.

3. ضعف النمو العاطفي والاجتماعي

الحضور الأبوي يُشكّل قاعدة مهمة في تعليم الطفل كيفية التفاعل الاجتماعي السليم، وفهم المشاعر، وضبط الانفعالات. غياب هذا الدور يُخلّف فجوة في النضج العاطفي لدى الأبناء، ويؤثر في علاقاتهم لاحقًا بالآخرين.

4. غياب الهوية والتوجيه القيمي

الأب يمثل لدى الأطفال، خاصة الذكور، نموذجًا يُحتذى في بناء الهوية، واكتساب القيم والمبادئ الأخلاقية. وفي حال غيابه، يصبح الطفل أكثر عرضة لتأثير الأقران أو الإعلام أو وسائل التواصل، ما يؤدي إلى ضياع البوصلة التربوية والقيمية.

5. زيادة احتمالات الانحراف أو الانسحاب

الأطفال الذين يكبرون في ظل غياب الأب العاطفي يكونون أكثر عرضة للانحراف السلوكي، أو الهروب إلى الإدمان أو الرفقة السيئة، أو الانسحاب من المجتمع، أو حتى الانهيار النفسي في سن المراهقة.

الأم الحاضرة وحدها: معركة غير عادلة

في ظل غياب الأب التربوي والعاطفي، تجد الأم نفسها مضطرة إلى لعب جميع الأدوار: الراعية، المعيلة، المربية، الموجهة، الحامية. غير أن هذا التداخل الكبير في الأدوار يُرهقها نفسيًا وجسديًا، ويجعل أداءها عرضة للقصور، رغم كل الجهود. كما أن الطفل يبقى بحاجة إلى صورة الأب كعنصر تكميلي في التكوين النفسي والاجتماعي المتوازن.

الحاجة إلى استعادة الدور الأبوي الحقيقي

لا يمكن الحديث عن أسرة متماسكة أو مجتمع سليم دون وجود أب فاعل، مشارك، ومحب. فالحضور الحقيقي للأب لا يُقاس بعدد ساعات بقائه في المنزل، بل بمدى تفاعله، مشاركته، حضوره الذهني والعاطفي، دعمه لأطفاله، ومتابعته الدقيقة لمساراتهم النفسية والتربوية والتعليمية.

أبرز المهام التي ينبغي أن يضطلع بها الأب:

دور المؤسسات التربوية والمجتمع

لا يقتصر حل مشكلة “الأب الحاضر الغائب” على التوعية الفردية، بل يستدعي تدخلًا من المؤسسات التعليمية، والإعلامية، والدينية، والمجتمعية:

• برامج تدريبية للآباء الجدد حول أسس التربية الحديثة.

• إدماج موضوعات الأبوّة الواعية في المناهج التعليمية.

• تنظيم ورش عمل وجلسات حوار بين الآباء وأبنائهم.

• التوعية عبر الإعلام بخطورة غياب الدور الأبوي الحقيقي.

• تشجيع ثقافة الاعتراف بالمشاعر داخل الأسرة، بدلًا من تهميشها.

خاتمة

الأب ليس مجرد عنوان للأسرة، ولا مجرد ممول مالي. إنما هو حاضر بالحب، بالاحتواء، بالقدوة، بالتوجيه، بالتشجيع، وبالارتباط العاطفي الحقيقي. وكل محاولة لتبرير غيابه الوجداني عن حياة أبنائه، لا تبرر حجم الأثر الذي يتركه ذلك الغياب في نفوسهم. فحين يغيب الأب بهذه الصورة، لا يغيب فقط عن لحظات طفولة أبنائه، بل يغيب عن تشكيل مستقبلهم، وعن الأمان النفسي الذي يحتاجون إليه كي يصبحوا أفرادًا أسوياء، متزنين، وفاعلين في المجتمع.

المصادر

1. Pruett, Kyle D. Fatherneed: Why Father Care is as Essential as Mother Care for Your Child. Broadway Books, 2001.

2. Lamb, Michael E. The Role of the Father in Child Development. Wiley, 2010.